قبل حلول عام 1954، كان هناك شبه إجماع بين المتخصصين في مجال مسابقات العدو (الركض والجري) أن الجنس البشري لا يستطيع – بحكم تكوينه الجسماني – أن يقطع مسافة الميل طولا في زمن أقل من أربع دقائق. في 6 مايو من عام 1954، حطم العداء البريطاني روجر بانيستر هذا الاعتقاد، وقطع مسافة الميل في زمن قدره ثلاث دقائق و 59 ثانية و أربعة أجزاء من الثانية. بعده بأسابيع ستة، حقق جون لاندي زمنا أقل منه، ثلاث دقائق و 58 ثانية. بعدها بعامين، حقق ديرك إيبوسطن زمنا أقل من لاندي بقرابة ثمانية أجزاء من الثانية.
بعد إنجاز بانيستر بسنوات ثلاثة، بلغ عدد من حطموا اعتقاد مستحيل الدقائق الأربعة 16 عداء، ولنا نحن العرب حق الفخر بالعداء الجزائري نور الدين مُرسلي الذي قطع مسافة الميل في عام 1993 في زمن قدره 3 دقائق و 44 ثانية و39 جزء من الثانية، ثم جاء بعده المغربي هشام الكروج في عام 1999 ليحقق زمنا قدره 3 دقائق و 43 ثانية و13 جزء من الثانية، وهو أقصر زمن مسجل حتى وقت كتابة هذه السطور.
ما الذي حدث؟ هل حقق الجنس البشري تطورا جسمانيا خلال هذه السنوات؟ نعم للتدريب دوره، لكن السؤال الأهم، ما التغيير الذي طرأ على معادلة الاعتقاد باستحالة قطع الميل في أقل من أربع دقائق؟ ببساطة، حين قطع روجر بانيستر الميل في زمن أقل من أربع دقائق، تحطم هذا الاعتقاد في العقول، وهذا سهّل كثيرا على من جاؤوا بعده فعلها مرات ومرات.
إن ما حدث هو تحطيم للمعتقد في الأذهان، قبل تحطيمه على أرض الواقع. لو كان بانيستر مقتنعا من داخله باستحالة قطع الميل في أقل من أربعة دقائق، ما كان ليفعلها، لكن لأن هذا المعتقد السائد قاومه يقين أكبر لدى بانيستر بأن في إمكانه قطع مسافة الميل في زمن أقل، حينها صادف اليقين التنفيذ، ودخل سجلات التاريخ بهذا الانجاز، فهو من أرشد الأجيال من بعده لحقيقة مفادها: إنك إن حطمت المستحيل في عقلك، حطمته حتما بعدها في الواقع، أنت أو من جاء من بعدك.
حين ذهب ناسك العلم ريتشارد ستالمن (Richard Stallman) ليحدث الباحثين في شركة IBM عن فكرته القائمة على توفير التطبيقات والبرمجيات الحرة بدون مقابل، وأنها يجب أن تكون حرة المصدر، نظر الجميع إليه باستغراب وربما استهجان، لكن انظر اليوم إلى حجم البرمجيات الحرة المجانية مفتوحة المصدر وأنظمة التشغيل المجانية، ومدى انتشارها ونجاحها، لقد كانت يوما فكرة غربية وربما سخيفة، وها هي اليوم حقيقة. إن غالبية الأرقام والتصنيفات الواردة في هذه المقالة هي من موسوعة ويكيبيديا، الموسوعة الحرة المجانية، التي يكتبها ويديرها الأفراد، بدون مقابل مالي، وهي
الأخرى كانت حلما وفكرة في يوم من الأيام، وربما ظنها البعض مستحيلا!
إن المستحيل فكرة نكونها بعقولنا، فتصدقها أجسامنا، ويشهد بها حالنا. إذا اقتنعنا مثلا أننا كعرب لن ننجح أبدا، فمن يلوم واقعنا إن وافق معتقدنا هذا. على الجهة الأخرى، إن اقتنعنا بفكرة أننا – مثلنا مثل غيرنا من البلاد – قادرون على أن نعيد زمن الأمجاد، ونعود مرة أخرى قوة لا يُستهان بها، ولنا اقتصاد قوي، وتجارة مترامية، ونكون مناجم علم وفن وأدب وتقدم، فلن يملك الواقع سوى أن يعكس هذا الاعتقاد.
إذا كنت مقتنعا من داخلك أنك لن تنجح، فأنت مرآة اعتقادك، لكن لا تلوم إلا نفسك. أما إذا آمنت أنه لا نهاية لما تستطيع فعله، فمن يستطيع أن يقف أمامك. اقهر المستحيل، وآمن أنك لو أردت لاستطعت، وغّير نفسك من الداخل يتغير لك الخارج. لليوم، لم تتمكن أي عداءة من كسر هذا الرقم، وأقربهن له الروسية سفيتلانا ماستركوفا.
هذه المقالة لا تنكر القضاء والقدر، بل تنكر الكسل والتخاذل والتشاؤم والانهزام من الداخل.